نص غيم أسود



تلك البلدة المنكوبة بحريرها نكبت بوباء أيضا. قيل إنه الهواء الأصفر ، وقيل الطاعون ، وأكدآخرون فيما بعد أنه الجوع. انتشرت المجاعة في كل مكان . وانتشر الجرب فأصابتنا
تحليل النص القرائي ((غيم أسود)) - حنا مينة
العدوى. ظهرت البثورعلى أجسامنا ، والتهبت بالحكة و تبقعت وجعلت الأم تذيب الملح وتدهننا.
        ذهبت يوما الى بيت المختار فطردوها. كان الزوج قد جن ، دخل غرفته وأغلق الباب نهائيا ، ولم يعد يسمح لأحد بالدخول عليه. كان يتناول طعامه من نافذة الغرفة ، ويغلقها بعد ذلك ، وحرم على الجميع ولوج عتبة الباب الذي غدا محجرا لمن فيه . ولم تستطع الأم أن ترى أختنا المحجورة.فعادت فارغة اليدين ، وبدا لها في نوبة من اليأس ، ألا مخرج لنا من ورطتنا وأننا ميتون لا محالة جوعا.
        كان الوقت عصرا ، وكان عصرا تشرينيا باردا . وقالت الأم : إن علينا أن نذهب إلى الحقول ونجمع من التخوم ومجاري المياه أنواعا من الحشائش ستدلنا عليها.
       رفضت البقاء في البيت ، فألبستني ثيابا شتوية ، وقمطت رأسي بمنديل وحملتيني ومضينا الى غدير قريب ومعنا سلة، وفي يد الأم و الأختين سكاكين . وهناك شرعن باقتلاع عشبة الحميضة التي جمعنا منها مقدارا كافيا . وعدنا الى البيت فغسلتها الأم وفرمتها ونحن نتحلق حولها . ولم نبرح الموقد الذي تسلقها عليه حتى استوت ، وسكبتها لنا في صحن كبير ، فاقبلنا عليها.
       هذه الوجبة الحشبشية كانت خدعة غدائية يائسة ، خلفت غثيانا في نفوسنا وإسهالا بلغ حد المرض برغم الملح الذي أكثرت منه الأم.
       ومع ذلك ، كان لا بد من هذا الحشيش ، وقد حسبت الأم أن الإسهال يزول بشرب الماء الساخن.حدثتنا وهي تطهوه لنا أنها تعرف مكانا ينبت فيه بكثرة ، وأنها ستقودنا في الصباح لجمع كمية كبيرة منه.  و في الصباح كنا على حالة من الاعياء بسبب القي والإسهال ، ألجأنا إلى الانكفاء في ركن البيت صفر الوجوه ، ذابلين كأغصان قطعت وألقيت في شمس تموز . وزاد في هلع الأم ذلك الورم الذي ظهر في وجوهنا وأطرافنا من جراء بثور الجرب.
      إن جسوم الأطفال ، حين ينهكها الضعف أو المرض،  تنقلب حيويتها الى أشلاء تستدر الإشفاق والجزع . لا يبقى عندئذ من الطفل سوى عينين تنظران بانكسار ولا مبالاة. يذبل وتنفرج شفتاه عن أسنانه ، ويكف عن الحركة ويلاحق صامتا أمه بنظرات مودعة ضارعة.
       كنا نحن أولئك الأ طفال...لقد أهزلنا الجوع  ، وهدنا الإسهال وتراخينا كأوراق مبللة. وعلى فراش في الزاوية تمددت ، ولم تلبث أختاي أن تكورتا قربي ،  وغطتنا الأم وأشعلت النار في  الموقد.
       لقد ازدادت الآن نحولا ، وفي الاستجابة إلى نداء الجسم المكود كان طبيعيا الاستسلام . لتأت النهاية على النحو الذي تريد . ياأيتها النسمة الباقية في الصدر اخرجي ودعينا . الحياة والموت يصبحان في وهن الجسم وهنا في الصراع . يكف الصراع ويلوح الموت حاملا ملاءة غيم أسود.
      ذلك الصباح كان غيم أسود ، كان برد.  وكنا شموعا صغيرة  ، أعقاب شموع صغيرة تنوس وتوشك أن تنطفىء. كان يكفي أن تغلق أمنا الباب ، وتأتي إلينا وتضطجع مثلنا ،  تاركة للغيمة أن تغمرها
وللراحة أن تشملها وللبيت الطيني أن يوارينا حتى يفطن إلينا من يوارينا.

حنا مينة ، بقايا صور ، دار الآداب ، بيروت ، الطبعة 2 ، 1978 . (بتصرف)

أحدث أقدم