قصة جزيرة النوارس


كان يا مكان،
و في
عرض المحيطات و البحار، و من بين عمق الخلجان، ترقد جزيرة عذراء بين
الأمواج في أمان، يتكتم على أخبارها الإسطراب و الزمان، فلم يطأها من قبل
جنس ينسب لبني الإنسان، بل تسكنها أسراب من طير النورس.
يغطي الجزيرة
بساط أخضر، يفترشه بدلال بهيُّ الزهر، مزركش بكل لون من فاكهة الشجر،
تزينه الحصى كأنه بعض من المرمر، يجري من بين تلاله ماء عذب من النهر،
ليعانق بالأحضان ماءً مالحا من البحر، فيغدو في طرفة عين زلالاً كأنما قد
مسه سحر. يتوسط أرضها جبل يشمخ بالعزة و الخير، معانقا سحب السماء و هو
يتسلق على أعتاب صخور النصر، سكنته من الطير نوارس و لا غير، جعلته لها
مسكنا من قرِّ البرد و من شدة الحر، و يقيها حتى من رداد ماء يغير من
البحر، و من ريح عاتية تحسب على الصرصر، و يحميها من صقور رحالة و نسور
شاردة، فقد شيدت لها سلفاً بين شقوقه أعشاشا بعد عناء و صبر، فيها آمان
لها و للقادم من البيض مقر، و فيها حياة لها إن أحدق بها أضغاث الخطر..
ألفت
النوارس بحميمية المكان، و ما عادت تهتم للزمان بقدر الحنان، تقضي يومها
تخفقُ بلى تعب بالجناحان، بين موج البحر باحثة عن قليل من الطعام يسد رمق
الجوعان، لتعود في المساء لأعشاشها بين الشطئان، على هذا درجت النوارس و
على هذا شبت، حتى إشتد عضدها، و تكاثر عددها، و ضاق الجبل ببعضها البعض،
فنزلت للسهل تطلب لها مكانا و مقر، فإحتوتها أرض الجزيرة كلها، و على ذلك
عاهدت أبد الدهر، حتى أصبحت همس النوارس يسمع في كل ركن منها، ليبلغ صداها
حتى مسامع لؤلؤً كامنا في المحار، و مع أن السمك قد ندر من الساحل إلا أنه
لا يزال موجودا و بوفرة في عمق البحر، فقد ظل الموج على عهده يجود بالقوت
لكل ذي جناح من الطير، فما زاد هذا النوارس إلا تآلفا و محبة، فقد علمت أن
لها حياة في الوحدة، إلا واحداً منها، كان قد حباه الله من قبل بجناحين
كبيرين، شبه له أنه شيء يذكر فبنفسه إغتر كالطاووس و زها، و بينه و بين
نفسه قال :

مالي أرى غيري من وضيع النوارس قد سكن الجبل لينعم بدفء
الشمس وقت العصر، و بمنظر الغروب المبهر و بشرف مجاورة القمر، و أنا الذي
لي جناحان إن فردتهما أصبح العزيز فيهم مهان ؟!
فما هم بخير مني و لا
في يوم من الأيام كانوا و لن يكونوا، بل بالسؤدد أنا لوحدي جدير، فما خلقت
الجبال إلا لمثلي و ليس لكل طير يطير..
حاول النورس المغرور عبثا أن
يجد له مكانا في قمة الجبل، فلتحقيق هدفه قد أباح لنفسه كل السبل، فتسلق
ذات ليلة و في الخفاء الجبل حتى وصل قمته، فرمق طيرا ضعيفا من النورس، يحض
عشه و هو مطمئنُ النفس، فعادت نفس النورس المغرور لتحدثه بالسوء فقالت :
هذا
و لا ريب هو عز المنى، فالطير ضعيف و بدنه جد نحيف، فيكفيك نقر على الرأس
بشكل خفيف، لتغدو أنت صاحب المكان و هو دخيلاً و مجرد ضيف..
فإنقض عليه
المغرور و الشرر يتطاير من عينيه، ليباغث النورس الآمن دون أن يرق له جفن،
ففتح الأخير عينيه على الألم و بمخالب الآخر تنهش جسده، فصاح صيحة إستغاثة
دون حتى أن يستوعب ما يجري، فهبت النوارس من البر و البحر، تبغي نصرة
المظلوم و رد كيد الظالم في نحره، فتكالبت عليه من كل حدب و صوب، هذه
تنقره و تلك تخدشه بمخالبها، حتى ترك العش لصاحبه و ما إن سنحت له الفرصة،
حتى أطلق العنان لجناحيه يريد الفر و لا ينوي على الكر، و لا يلوي إلا على
خفي حنين و يجر خلفه أذيالا من الخيبة، حتى وصل و هو يترنح إلى عشه على
السفح، مثخنا بالطعنات و الجروح، فخر على وجهه مغشيا عليه، فعادت نفسه
الخبيثة لتحدثه في منامه :

لن يكون لك في قمة الجبل مكان، مادام حق
الضعيف بينهم لا يزال مصاناً، فلو كانت لك جزيرة تسكنها، فسيكون لك لوحدك
جبل ستخلد عليه نسلك على مر الزمان، و لن تكلف نفسك حتى عناء الرفرفة و
الغوص في القيعان، فستجد السمك في ساحلها يداعب رمال الشطئان، لا ينتظر
إلا فارسا بمثلك للأنا ولهان..
فإستفاق النورس المغرور، و قد بدت على
محياه تقاسيم الندم، حتى خالت النوارس أنه قد ثاب عن فعلته و طلب العدم،
فأحبت النوارس أن تصفح عنه حتى نطق هو بالكلم، فقال :

ويح نفسي..
كيف فاتني من قبل هذا ؟!
كيف فاتني أن هذه الجزيرة هي فقط للرعاع و الغوغاء ؟!!
كيف عشت معكم طيلة هذا الوقت دونه أن أتنبه إن لم يكن هذا هو الغباء ؟!!!
كيف
فاتتني حقيقة أني أفضلكم جميعا جملة و تفصيلا ؟! و لي أكبر جناحان
يمكنانني من طوي البحار لأصل مكانا لم تطئه منكم نوارس دوني في الخلق..
فإلى الجحيم أنتم و جزيرتكم، فعلى أي حال هي أصلا دون أن يطيب لي فيها المقام إن لم أكن فيها عليكم سيداً مُهاب..
ففرد المغرور جناحيه، و أطلق قهقهة عالية، و طار من أرض الجزيرة...
فنظرت النوارس في إستغراب إلى بعضها البعض و قالت :
لابد أن المغرور بجناحيه قد فتن، و يبدو أنه الآن قد جن !
حلق
النورس المغرور بعيدا لا يلوي على وجهة محددة، و كلما إرتفع في السماء و
علا، عن نظر باقي النوارس إختفى، قطع مسافات و مسافات، فقط يتتبع ضوء
النجم القطبي ليلا و الشمس نهاراً، فلم يسبق له من قبل في أفضل الأحوال
تجاوز ساحل الجزيرة ميلا أو ميلين..
مرت أيام و ليالي، و لم يجد النورس
بعد جنته الموعودة، بل وجد أمواجا عالية في وجهه كأنها أبواب مسدودة،
تلفحه الشمس بالنهار لتذيقه من ألوان العذاب، و تكوي رياح الليل بدنه
الجاف بالبَرَدْ، و من حين لآخر تلهو به الأعاصير و تتسلى بالعبث بريشه و
نتفه، حتى هزل و علِم علْم اليقين أن أيامه قد أصبحت معدودة، حتى همّ
بالعودة فوجد نفسه تكابر و تقول :
لا و ألف لا، فإن رضيت على نفسك أن
تصبح حديث الساعة و عنوان القيل و القال فلن أرضى أنا، مضى الكثير و بقي
القليل لنصل جزيرة معدة لنا في ترفها سنحيى..
أطرق النورس المنهوك
لحديث الروح يمني نفسه فرجا قريبا، فحتى إن أحب العودة فلن يكتب له ذلك،
فقد طمس المد و الجزر و الإعاصير معالم طريق العودة..
و ذات يوم، و
بينما أجنحة النورس بالكاد تحمل جسده و ترفرف به بشكل عشوائي، لمحت
مُقَلهُ المتعبة ما بدى للعين جزيرة، فخاله مزحة سمجة من سراب البحر فقد
مر به من قبل هذا، فأقفل العينين ببطأ و أعاد فتحهما، فوجد الجزيرة حقيقة
قابعة في مكانها، فإنفرجت سرائره بالفرح بعد رأى الفرج، فخفق بجناحيه بما
تبقى له من قوة ليصلها و يطالها بسيقانه،
لكن، ما إن إقترب من سمائها
حتى وجد أسرابا من العقبان تحرصها، التي ما إن وقع ناظرها عليه حتى أخذت
تطارده تريده فريسة سهلة المنال لها، فرفرف النورس بكل ما أوتي من قوة
يريد فقط بلوغ الأرض و الإحتماء بأغصان الشجر، فلم يعد أمامه أصلا شيء
يخسره، فإن لم تقضي عليه العقبان عاجلا فسيقضي عليه الجوع و التعب لاحقا،
فحالف الحظ النورس حتى نَاوَرَ العقبان و نجا من براثنها بين شوك الدغل، و
بينما هو يلتقط أنفاسه بين الأغصان، رأى أسرابا من الصقور و النسور و
العقبان و الحدآت، و لم يلمح و لو نورسا واحدا شاردا، فعلم أنه كما
للنوارس جزيرة، فللكواسر و الجوارح جزرا و أرخبيلات و ليس مجرد جزيرة، كما
وجد أرض الجزيرة قليلة الخضرة تغطيها الحصى و الحجارة، و الطريق إلى سمك
البحر مكشوفة و جد خطيرة، فأحس في الحلق بغصة و في الخاطر بمرارة حتى بدأت
تظهر عليه الحسرة، و لكن نفسه عادت من جديد لتخدره و ليس لتأنبه أو
لتحذره، فقالت :
صبر جميل.. فَلْتَقْتَتْ على الحشائش اليابسة و الحصى
الصغيرة، و لتشرب من المياه الآسنة، حتى تستريد عافيتك، و إنتظر قدوم يومٍ
تكون فيه الجوارح عن حراسة سماء الجزيرة غافلة..
أطرق النورس لهمس نفسه، فلم يعد أمامه من سبيل للبقاء إلا أن يسلك درب الذلة بعد أن طرق باب الغباء..
مرت الأيام حتى صارت أشهر و سنوات،
و
النورس هذا حاله، يقضي يومه بحثا عن فتات ما إقتات عليه الكواسر، و يتسلل
بين الشقوق و يختبأ خلف الأكمات و الجذوع و الفروع، يعيش الخوف لحظة
بلحظة، و ما إن يرخي الليل بسدولة حتى يصيبه من الرعب رجفة..
حتى قدم اليوم المعلوم، و تلبدت السماء بالغيوم، تعلن عن قدوم عاصفة هوجاء هذا اليوم،
فتفرقت الكواسر و الجوارح تهيم على وجه الأرض تريد النجاة بنفسها من تقلب مزاج البحر،
فرمقت أعين النورس السماء، فرآها خالية من أي صقر أو نسر، فهتفت فيه نفسه :
هذه
و الله فرصة العمر.. و ها هي ذي أولى علامات النصر مع قطر المطر.. فإضرب
بجناحيك فمازالت تنتظرنا جزيرة القمر و الزهر و وعد العمر..
ضرب النورس بجناحيه ضربة و زادها خفقة و تلاها برفرفة.. و لكنه لمكانه قطّ ما برح..
فعلى
ما يبدو فقد مر زمن طويل على النورس في جزيرة الكواسر دون أن يخفق بجناحيه
و لو لمرة، فنسي مع طول الأمد كيفية الطيران، فقد أصاب جناحيه الوهن و ما
عادتا لتنفردا بشكل تام و لا عادتا لتقويا على حمله، بل إنكمشتا و تقوستا
و أصبح و جودهما كعدمه..
فقال النورس لنفسه هذه المرة و هو ربما ندمان :
فلترضي يا نفسي مذعنة، و أنا من قبلك بعيشة الدجاج.. و إلا فالويل لك، و لي من سيوف نسور الحجاج..

 جزيرة طيور النورس في كردستان - العراق

لاتنسى التعليق ساكون سعيدا بالإجابة

إرسال تعليق

لاتنسى التعليق ساكون سعيدا بالإجابة

اضف تعليق مميز (0)

أحدث أقدم